إنتاج «مكّة كولا» في غزّة (أرشيف ــ أ ف ب)أسهم الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1948 في تدمير البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الفلسطيني، وألحق معظم موارد فلسطين الطبيعية والمائية باقتصاد الاحتلال، الذي استكمل السيطرة على سائر الموارد عام 1967 باحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، وإلحاق الاقتصاد الفلسطيني هيكلياً باقتصاد الاحتلال
فراس جابر *
عملت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، من ضمن ما عملت عليه، على الوعي الاقتصادي للجماهير الفلسطينية من خلال مقاطعة البضائع الإسرائيلية، والتوجّه نحو المنتجات الوطنية. وأسهم في هذا قرار القيادة الوطنية بتوفير غطاء للمقاطعة. وبعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 وبدء تأسيس السلطة الفلسطينية إثر توقيع الاتفاقية، بدأ العمل على إقامة مؤسسات «الدولة»، ومنها الوزارات والمؤسسات الحكومية ذات الطابع الاقتصادي، لكن رغم وجود هذه المؤسسات لمدة 16 عاماً، فإنها لم تستطع إلغاء أو التقليل من التبعية الاقتصادية للاقتصاد الإسرائيلي، طبعاً بوجود شروط موضوعية للإلحاق، منها الاحتلال المباشر والسيطرة على المعابر المختلفة، ووجود العمالة الفلسطينية في الداخل واتفاقية باريس الاقتصادية، التي أبقت للاحتلال اليد العليا على تطور الاقتصاد الفلسطيني.
يمكن حالياً تحديد شكل الاقتصاد الفلسطيني بالنقاط الرئيسة الآتية:
أولاً: اقتصاد غير حر وتابع للاقتصاد الإسرائيلي والعالمي، بما لا يمكّنه من اتخاذ قرار مستقل يوجّه كيفية تطوّره.
ثانياًً: اقتصاد تابع لاقتصاد الاحتلال هيكلياً، بما يعني أن أي تطور في بنية الاقتصاد الفلسطيني مرتبط تماماً بالاقتصاد الإسرائيلي، وبأي طريقة يرغب الأخير فيها لتطور قطاعات معينة داخل الاقتصاد الفلسطيني.
❞80% من واردات السلطة تأتي من إسرائيل التي يذهب إليها نحو ثلثي صادرات السلطة
❝ثالثاً: اقتصاد مرتبط بالسوق العالمية عبر بوابة اقتصاد الاحتلال، بما ينتج اختلالات إضافية داخل بنية هذا الاقتصاد.
رابعاً: من ناحية داخلية، يتّسم الاقتصاد الفلسطيني الحالي بالريعيّة والخدماتية، بمعنى أنه اقتصاد عالمثالثي في تعظيم بنية الخدمات على حساب القطاعات الإنتاجية، لكنه يستمر في التطور عبر استخدام الريع المتأتي من الضرائب والرسوم.
خامساً: اقتصاد غير متكافئ، بمعنى أن الفصل الجغرافي التاريخي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، والسياسي الأخير بعد الانقسام، قد أدى إلى وجود فوارق أساسية في حجم النمو الاقتصادي المحلي بين الضفة والقطاع من جهة، وتدمير المقومات الاقتصادية في القطاع من جهة أخرى، بما أوجد هذا اللاتكافؤ.
سادساً: وجود سياسات اقتصادية ذات طابع ليبرالي تؤثر في تركيبة الاقتصاد الفلسطيني بما يخدم الاقتصاد غير المنتج، والمتورط في مشاريع شراكة اقتصادية مع الاحتلال.
في تحليل آليّات عمل الاقتصاد
يبدو الاقتصاد الفلسطيني في هذه الأيام نموذجاً دراسياً بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. فإضافةً إلى خضوعه للاستعمار المباشر، وما يتضمنه هذا الاستعمار من عسف اقتصادي وسيطرة على الموارد الطبيعية والبشرية، يملك الاستعمار القدرة على رسم اتجاهات الاقتصاد الفلسطيني، ليخدم بتبعيّته الاقتصاد الاحتلالي «فلو كانت العلاقات الاقتصادية بين الاقتصادين الفلسطيني والإسرائيلي مقتصرة على ديناميات قوى السوق الحرة، لكان ينبغي مع مرور الزمن أن تضيق الفجوة بين الاقتصادين، من حيث دخل الفرد. إلا أن ما حدث في الواقع كان عكس ذلك». (الأونكتاد 2009: 14).
تضاف الوصفات النيوليبرالية لتطوير الاقتصاد الحديث لتعيد تكوبن الاقتصاد الفلسطيني، بما يخدم مناحي اقتصادية تراكم في قطاع الخدمات بالأساس، وتنزاح عن القطاعات الإنتاجية ذات القدرة على تطوير الاقتصاد ورفده.
هذه الوصفات موجودة في السياسات التنموية والاقتصاديّة لحكومة تسيير الأعمال الفلسطينيّة برئاسة سلام فياض، إذ يعمل رئيس الحكومة على توجيه الموارد المالية الفلسطينية ـــــ المحدودة أصلاً ـــــ بالإضافة إلى التمويل الغربي، ليعيد رسملة الاقتصاد بما يضمن خصخصته المطلقة، وتحكُّم القطاع الخاص في هامش الحرية الباقية للسوق، وإعطاء مساحة عالية ضمن سياسات الحكومة ووزرائها لإنتاج خطاب قطاع خاص فلسطيني، كما نرى في خطة التنمية والإصلاح 2008ـــــ2010. فلم تخصص الخطّة سوى أقلّ من 1% من الموازنة للقطاع الزراعي (أنظر: الرياحي، أيلول 2008)، رغم أن الأرض هي جوهر الصراع مع الاحتلال، ودعم القطاع الإنتاجي الزراعي سيسهم في تثبيت المزارع على أرضه من ناحية، وفي زيادة حصة المنتجات الزراعية الفلسطينية داخل السوق: «وقد كان واضحاً تراجع إسهام قطاعي الصناعة والزراعة في الناتج المحلي الإجمالي بصورة عامة منذ سنة 1999، حيث انخفض إسهام القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي من 14.5% سنة 1999 إلى 13.7% سنة 2009، مع ملاحظة أنه عبر عشر سنوات كاملة لم يستطع قطاع الصناعة أن يحقق سوى نمو محدود، وبمعدل لا يتجاوز 2.5% على مدى الفترة بأكملها. فيما انخفض إسهام القطاع الزراعي في هذا الناتج من 10.4% سنة 1999 إلى 3.6% فقط سنة 2009». (مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2010).
المشكلة في هذا المنهج الاقتصادي ـــــ السياسي ليس وجوده في دول عالمثالثية فقط. فدول الجوار تتبع بشكل أو بآخر وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين من أجل هيكلة اقتصاد هذه الدول للاندماج في اقتصاد العولمة. إلا أن وجود اقتصاد قوي ومسيطر مثل الاقتصاد الاحتلالي يضيف تعقيداً وانحرافاً إلى هذه الصورة المركّبة، بحيث تصبح الموارد الطبيعية والبشرية الفلسطينية خاضعة لتشويه هيكلي متعمّد بما يلحقها دائماً لخدمة اقتصاد الاحتلال ومنفعته. أمّا الموارد القليلة الباقية، فتخضع لسياسات اقتصادية إقصائية، بحيث تتراكم لدى حفنة من الشركات الخدماتية، بما يعنيه ذلك من فك سيطرة القطاع الإنتاجي على الموارد المحدودة، وضعف دوره العام على مستوى الناتج المحلي الإجمالي. وبمراجعة سوق فلسطين للأوراق المالية، نجد التالي: «هناك 37 شركة مساهمة عامّة مدرجة في سوق فلسطين للأوراق المالية: 6 شركات في مجال البنوك، 10 شركات في قطاع الصناعة، 5 شركات في مجال التأمين، 8 شركات في قطاع الاستثمار، 8 شركات في مجال الخدمات. وقد يتبين أن شركات القطاع الخاص ذات الطابع الصناعي هي الأكبر من حيث العدد، ولكن عند مراجعة القيمة السوقية بالدولار لمجموعة هذه الشركات، نجد أنها لا تتجاوز 176 مليون دولار مقابل 487 لقطاع البنوك، و455 لقطاع الاستثمار، و1220 مليوناً لقطاع الخدمات... وحسب تصنيف شركات إنتاجية وشركات غير إنتاجية (مالية، خدماتية)، نجد أن نسبة القيمة السوقية للقطاع الصناعي لشركات القطاع الخاص ذات المساهمة العامة تبلغ 7.3% فقط من مجموع قيمة سوق فلسطين للأوراق المالية، مقابل 50% لشركات الخدمات الخاصة ذات المساهمة العامة. وبتدقيق أكثر لقيمة جميع الشركات المدرجة، نجد أن قيمة السوق تبلغ 2424 مليون دولار أميركي، تستحوذ مجموعة الاتصالات وحدها على ما نسبته 46.5% من قيمة السوق الكلية». (جابر، 2009).
نضيف إلى هذا، أن الاقتصاد الفلسطيني المطلوب في مرحلة التحرر الوطني، هو اقتصاد يعزز صمود المجتمع والناس، بما يمكّنهم من النضال والعيش الكريم، وممارسة سيطرة شعبية على الاقتصاد بفروعه، بما يخدم الهدف الكلي. ولا يعني هذا بالضرورة وجود اقتصاد مخطط، بل على الأقل وجود توجهات وسياسات عامة تعمل لخدمة هذا الهدف. وللتدليل على حجم التزوير الاقتصادي الممارس حالياً، يكفي أن نعلم حسب تقرير لصندوق النقد الدولي أن حجم النمو الاقتصادي الفلسطيني لعام 2009 يبلغ حوالى 7%، و8% في الضفة الغربية وحدها، في الوقت الذي تبلغ فيه الموازنة الحكومية أكثر بقليل من ثلاثة مليارات دولار، نصفها يأتي مباشرة من جيوب المانحين (الجزيرة. نت، 25/8/2010). فكيف يمكن اقتصاداً تحت الاحتلال أن ينمو بنسبة 8% (من أعلى نسب النمو العالمية) في الوقت الذي يتلقى فيه تمويلاً للموازنة بنسبة النصف. إذاً إنّه اقتصاد «الفقاعة» المنتفخ بأموال المانحين السياسية بهدف «حل» القضية الفلسطينية، وهو اقتصاد ينمو نموّاً كبيراً يدعو معه اللجنة الرباعية إلى التفاؤل بما يحدث على الأرض: «وإذ تذكّر الرباعية بأن التغييرات التحويلية على الأرض هي جزء أساسي للسلام، تواصل دعمها لخطة السلطة الفلسطينية في آب/ أغسطس 2009 لبناء الدولة الفلسطينية في غضون 24 شهراً كدليل على التزام الفلسطينيين الجدي بدولة مستقلة تقيم الحكم الرشيد وتوفر الفرص والعدالة والأمن للشعب الفلسطيني، من أول يوم تقام فيه وتكون جارة مسؤولة تجاه كل دول المنطقة. وتلاحظ الرباعية بإيجاب خطوات إسرائيل لتخفيف القيود على التنقل في الضفة الغربية، وتدعو إلى اتخاذ مزيد من الخطوات المستدامة لتسهيل جهود السلطة الفلسطينية في بناء الدولة. وتصدّق الرباعية كلياً على جهود ممثل الرباعية في دعم جهود رئيس الوزراء (سلام) فياض في بناء الدولة، وبرنامج تنمية الاقتصاد الذي شهد تحسناً كبيراً في أداء السلطة الفلسطينية، في ما يتعلق بالأمن والقانون والنظام وتحسن النمو الاقتصادي. والرباعية تساند ممثل الرباعية في جهوده الحيوية لتعزيز التغيير على أرض الواقع دعماً للمفاوضات السياسية» (بيان اللجنة الرباعية، 19/3/2010). ويشير البيان نفسه إلى الظروف الصعبة التي يعانيها قطاع غزة، وفي ذهنه نموذج غزة «الفقيرة» التي يفتقر الفلسطينيين فيها إلى العديد من الاحتياجات والمواد الأساسية نتيجة الحصار الكامل للقطاع.
مقاربة الاقتصاد النامي في الضفة الغربية، التي تدعو معها الفلسطينيين إلى قبول الخطوات السياسية على الأرض، لم تخصص لتلك «الأرض» في موازنة السلطة لعام 2009 سوى أقل من 1% مقابل مبالغ طائلة للأمن، فيما الصراع على الأرض على أشده. لذا يتلقى الموظف الأمني مبالغ تفوق كثيراً ما يخصص للمزارع الفلسطيني الذي يعمل في الأغوار أو في مرج بن عامر. وفيما نسب البطالة نفسها لا تزال عالية رغم معدلات النمو المرتفعة: «وفقاً لمعايير منظمة العمل الدولية، بلغت نسبة المشاركة في القوى العاملة في الأراضي الفلسطينية 41.5% خلال الربع الثاني 2010... وأشارت النتائج إلى أن نسبة مشاركة النساء في سوق العمل في الربع الثاني من 2010 بلغت 15.2% مقارنةً مع 67.1% للذكور خلال الفترة نفسها... وفقاً للتعريف الموسع للبطالة، ارتفعت نسبة الأفراد الذين لا يعملون (سواءٌ كانوا يبحثون عن عمل أو لا يبحثون عن عمل) من 28.0% في الربع الأول 2010 إلى 28.6% في الربع الثاني 2010». (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 16/8/2010).
بدل خاتمة
إذاً يعتمد اللاعبون والمخططون الأساسيون للاقتصاد الفلسطيني على آليات عدّة لبناء الاقتصاد الفلسطيني:
1. بقاء الاقتصاد على المستوى القريب والمتوسط تابعاً بطريقة هيكلية، ومرتبطاً تماماً باقتصاد الاحتلال، «وجعل الاقتصاد الفلسطيني تابعاً للاقتصاد الإسرائيلي كخيار وحيد وبطريقة مباشرة. ففي السنوات الماضية، كانت نحو 80% من واردات السلطة تأتي من إسرائيل، بينما يذهب نحو ثلثي صادرات السلطة إلى إسرائيل». (مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2010).
2. توجيه الموارد الطبيعية والمالية، ورسم الخطط والسياسات الاقتصادية الفلسطينية التي تدمج المستوى المسيطر عليه فلسطينياً من الاقتصاد الفلسطيني بالسوق الحرة العالمية، بما يعنيه من غياب حماية المنتج الفلسطيني.
3. الاعتماد اعتماداً كبيراً على المنح والتمويل الأجنبي لغاية تحقيق الميزانية السنوية والخطط التنموية.
4. قبول النخب الاقتصادية والسياسية الآليات الثلاث لتعزيز سيطرتها على الواقع الاقتصادي ـــــ السياسي: «الدور السياسي المباشر لنخب المال والأعمال الفلسطينية المعولمة في عالم السياسة المباشرة ـــــ لا افترض انفصال الاقتصاد عن السياسة، بل القصد الممارسة السياسية المباشرة دون التعبير عن المصالح ـــــ أي تولي زمام الأمور وقيادة المجتمع بما يخدم مصالح هذه الفئات في تكرار لفكرة أن البُرجوازية الوطنية في مرحلة التحرر الوطني تشارك في معركة التحرر من أجل تسلم زمام القيادة في ما بعد، ولكن هل شاركت بالفعل هذه النخب في معركة التحرر، التي لم تنجز حتى الآن؟ فلماذا تريد أن تقود مجتمعاً تحت الاحتلال خاضعاً بأكمله للكولونيالية العسكرية والاقتصادية والسياسية، إلا إذا اقتنعت بأنه ليس هناك ضرورة لإنجاز مرحلة التحرر للقيادة، وأن تولي القيادة في الفترة المقبلة والمشاركة الفاعلة في إعادة تكوين المجتمع الفلسطيني بالمعنى الاجتماعي والاقتصادي الواسع هو ضرورة وحتمية لاستمرار إحكام قبضتها على كل مفاصل الاقتصاد». (جابر، 2010).
❞ثمة فوارق أساسية في حجم النمو الاقتصادي المحلي بين الضفة والقطاع ❝يخضع الاقتصاد الفلسطيني حالياً لعمليات هدم وإزاحة وإقصاء وانبناء تعمل من ضمن ما تعمل عليه بدمجه في شبكة من العلاقات السياسية ـــــ الاقتصادية على المستويات الداخلية والخارجية، كي يجري إحكام السيطرة على ركام الاقتصاد الفلسطيني الباقي بعد سنوات طويلة من الاستعمار.
المراجع:
- الاقتصاد الفلسطيني تقيّده إسرائيل. موقع «الجزيرة.نت». تاريخ الدخول: 25/8/2010.
- بيان مشترك من اللجنة الرباعية لسلام الشرق الأوسط، 19/3/2010. موقع مكتب المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية الأمركية.
- جابر. فراس. 2009. خصخصة فلسطين. دراسة وهم التنمية. رام الله: مركز بيسان للبحوث والإنماء.
- الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 16/8/2010. الإعلان عن نتائج مسح القوى العاملة، دورة الربع الثاني 2010 (نيسان ــــ حزيران، 2010).
- الرياحي، إياد. أيلول 2009. المانحون والاحتلال: روافع التنمية الفلسطينية. نشرة بدائل. رام الله: مركز بيسان للبحوث والإنماء.
- مجلس التجارة والتنمية ـــــ الأمم المتحدة. 2009. تقرير عن المساعدة المقدمة من الأونكتاد إلى الشعب الفلسطيني: التطورات التي شهدها اقتصاد الأرض الفلسطينية المحتلة. جنيف: الأمم المتحدة.
- الملخص التنفيذي للتقرير الاستراتيجي الفلسطيني لسنة 2009. 2010. تحرير د. محسن محمد صالح. بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
* باحث في مركز
بيسان للأبحاث ـــــ رام اللّه
فراس جابر *
عملت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، من ضمن ما عملت عليه، على الوعي الاقتصادي للجماهير الفلسطينية من خلال مقاطعة البضائع الإسرائيلية، والتوجّه نحو المنتجات الوطنية. وأسهم في هذا قرار القيادة الوطنية بتوفير غطاء للمقاطعة. وبعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 وبدء تأسيس السلطة الفلسطينية إثر توقيع الاتفاقية، بدأ العمل على إقامة مؤسسات «الدولة»، ومنها الوزارات والمؤسسات الحكومية ذات الطابع الاقتصادي، لكن رغم وجود هذه المؤسسات لمدة 16 عاماً، فإنها لم تستطع إلغاء أو التقليل من التبعية الاقتصادية للاقتصاد الإسرائيلي، طبعاً بوجود شروط موضوعية للإلحاق، منها الاحتلال المباشر والسيطرة على المعابر المختلفة، ووجود العمالة الفلسطينية في الداخل واتفاقية باريس الاقتصادية، التي أبقت للاحتلال اليد العليا على تطور الاقتصاد الفلسطيني.
يمكن حالياً تحديد شكل الاقتصاد الفلسطيني بالنقاط الرئيسة الآتية:
أولاً: اقتصاد غير حر وتابع للاقتصاد الإسرائيلي والعالمي، بما لا يمكّنه من اتخاذ قرار مستقل يوجّه كيفية تطوّره.
ثانياًً: اقتصاد تابع لاقتصاد الاحتلال هيكلياً، بما يعني أن أي تطور في بنية الاقتصاد الفلسطيني مرتبط تماماً بالاقتصاد الإسرائيلي، وبأي طريقة يرغب الأخير فيها لتطور قطاعات معينة داخل الاقتصاد الفلسطيني.
❞80% من واردات السلطة تأتي من إسرائيل التي يذهب إليها نحو ثلثي صادرات السلطة
❝ثالثاً: اقتصاد مرتبط بالسوق العالمية عبر بوابة اقتصاد الاحتلال، بما ينتج اختلالات إضافية داخل بنية هذا الاقتصاد.
رابعاً: من ناحية داخلية، يتّسم الاقتصاد الفلسطيني الحالي بالريعيّة والخدماتية، بمعنى أنه اقتصاد عالمثالثي في تعظيم بنية الخدمات على حساب القطاعات الإنتاجية، لكنه يستمر في التطور عبر استخدام الريع المتأتي من الضرائب والرسوم.
خامساً: اقتصاد غير متكافئ، بمعنى أن الفصل الجغرافي التاريخي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، والسياسي الأخير بعد الانقسام، قد أدى إلى وجود فوارق أساسية في حجم النمو الاقتصادي المحلي بين الضفة والقطاع من جهة، وتدمير المقومات الاقتصادية في القطاع من جهة أخرى، بما أوجد هذا اللاتكافؤ.
سادساً: وجود سياسات اقتصادية ذات طابع ليبرالي تؤثر في تركيبة الاقتصاد الفلسطيني بما يخدم الاقتصاد غير المنتج، والمتورط في مشاريع شراكة اقتصادية مع الاحتلال.
في تحليل آليّات عمل الاقتصاد
يبدو الاقتصاد الفلسطيني في هذه الأيام نموذجاً دراسياً بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. فإضافةً إلى خضوعه للاستعمار المباشر، وما يتضمنه هذا الاستعمار من عسف اقتصادي وسيطرة على الموارد الطبيعية والبشرية، يملك الاستعمار القدرة على رسم اتجاهات الاقتصاد الفلسطيني، ليخدم بتبعيّته الاقتصاد الاحتلالي «فلو كانت العلاقات الاقتصادية بين الاقتصادين الفلسطيني والإسرائيلي مقتصرة على ديناميات قوى السوق الحرة، لكان ينبغي مع مرور الزمن أن تضيق الفجوة بين الاقتصادين، من حيث دخل الفرد. إلا أن ما حدث في الواقع كان عكس ذلك». (الأونكتاد 2009: 14).
تضاف الوصفات النيوليبرالية لتطوير الاقتصاد الحديث لتعيد تكوبن الاقتصاد الفلسطيني، بما يخدم مناحي اقتصادية تراكم في قطاع الخدمات بالأساس، وتنزاح عن القطاعات الإنتاجية ذات القدرة على تطوير الاقتصاد ورفده.
هذه الوصفات موجودة في السياسات التنموية والاقتصاديّة لحكومة تسيير الأعمال الفلسطينيّة برئاسة سلام فياض، إذ يعمل رئيس الحكومة على توجيه الموارد المالية الفلسطينية ـــــ المحدودة أصلاً ـــــ بالإضافة إلى التمويل الغربي، ليعيد رسملة الاقتصاد بما يضمن خصخصته المطلقة، وتحكُّم القطاع الخاص في هامش الحرية الباقية للسوق، وإعطاء مساحة عالية ضمن سياسات الحكومة ووزرائها لإنتاج خطاب قطاع خاص فلسطيني، كما نرى في خطة التنمية والإصلاح 2008ـــــ2010. فلم تخصص الخطّة سوى أقلّ من 1% من الموازنة للقطاع الزراعي (أنظر: الرياحي، أيلول 2008)، رغم أن الأرض هي جوهر الصراع مع الاحتلال، ودعم القطاع الإنتاجي الزراعي سيسهم في تثبيت المزارع على أرضه من ناحية، وفي زيادة حصة المنتجات الزراعية الفلسطينية داخل السوق: «وقد كان واضحاً تراجع إسهام قطاعي الصناعة والزراعة في الناتج المحلي الإجمالي بصورة عامة منذ سنة 1999، حيث انخفض إسهام القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي من 14.5% سنة 1999 إلى 13.7% سنة 2009، مع ملاحظة أنه عبر عشر سنوات كاملة لم يستطع قطاع الصناعة أن يحقق سوى نمو محدود، وبمعدل لا يتجاوز 2.5% على مدى الفترة بأكملها. فيما انخفض إسهام القطاع الزراعي في هذا الناتج من 10.4% سنة 1999 إلى 3.6% فقط سنة 2009». (مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2010).
المشكلة في هذا المنهج الاقتصادي ـــــ السياسي ليس وجوده في دول عالمثالثية فقط. فدول الجوار تتبع بشكل أو بآخر وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين من أجل هيكلة اقتصاد هذه الدول للاندماج في اقتصاد العولمة. إلا أن وجود اقتصاد قوي ومسيطر مثل الاقتصاد الاحتلالي يضيف تعقيداً وانحرافاً إلى هذه الصورة المركّبة، بحيث تصبح الموارد الطبيعية والبشرية الفلسطينية خاضعة لتشويه هيكلي متعمّد بما يلحقها دائماً لخدمة اقتصاد الاحتلال ومنفعته. أمّا الموارد القليلة الباقية، فتخضع لسياسات اقتصادية إقصائية، بحيث تتراكم لدى حفنة من الشركات الخدماتية، بما يعنيه ذلك من فك سيطرة القطاع الإنتاجي على الموارد المحدودة، وضعف دوره العام على مستوى الناتج المحلي الإجمالي. وبمراجعة سوق فلسطين للأوراق المالية، نجد التالي: «هناك 37 شركة مساهمة عامّة مدرجة في سوق فلسطين للأوراق المالية: 6 شركات في مجال البنوك، 10 شركات في قطاع الصناعة، 5 شركات في مجال التأمين، 8 شركات في قطاع الاستثمار، 8 شركات في مجال الخدمات. وقد يتبين أن شركات القطاع الخاص ذات الطابع الصناعي هي الأكبر من حيث العدد، ولكن عند مراجعة القيمة السوقية بالدولار لمجموعة هذه الشركات، نجد أنها لا تتجاوز 176 مليون دولار مقابل 487 لقطاع البنوك، و455 لقطاع الاستثمار، و1220 مليوناً لقطاع الخدمات... وحسب تصنيف شركات إنتاجية وشركات غير إنتاجية (مالية، خدماتية)، نجد أن نسبة القيمة السوقية للقطاع الصناعي لشركات القطاع الخاص ذات المساهمة العامة تبلغ 7.3% فقط من مجموع قيمة سوق فلسطين للأوراق المالية، مقابل 50% لشركات الخدمات الخاصة ذات المساهمة العامة. وبتدقيق أكثر لقيمة جميع الشركات المدرجة، نجد أن قيمة السوق تبلغ 2424 مليون دولار أميركي، تستحوذ مجموعة الاتصالات وحدها على ما نسبته 46.5% من قيمة السوق الكلية». (جابر، 2009).
نضيف إلى هذا، أن الاقتصاد الفلسطيني المطلوب في مرحلة التحرر الوطني، هو اقتصاد يعزز صمود المجتمع والناس، بما يمكّنهم من النضال والعيش الكريم، وممارسة سيطرة شعبية على الاقتصاد بفروعه، بما يخدم الهدف الكلي. ولا يعني هذا بالضرورة وجود اقتصاد مخطط، بل على الأقل وجود توجهات وسياسات عامة تعمل لخدمة هذا الهدف. وللتدليل على حجم التزوير الاقتصادي الممارس حالياً، يكفي أن نعلم حسب تقرير لصندوق النقد الدولي أن حجم النمو الاقتصادي الفلسطيني لعام 2009 يبلغ حوالى 7%، و8% في الضفة الغربية وحدها، في الوقت الذي تبلغ فيه الموازنة الحكومية أكثر بقليل من ثلاثة مليارات دولار، نصفها يأتي مباشرة من جيوب المانحين (الجزيرة. نت، 25/8/2010). فكيف يمكن اقتصاداً تحت الاحتلال أن ينمو بنسبة 8% (من أعلى نسب النمو العالمية) في الوقت الذي يتلقى فيه تمويلاً للموازنة بنسبة النصف. إذاً إنّه اقتصاد «الفقاعة» المنتفخ بأموال المانحين السياسية بهدف «حل» القضية الفلسطينية، وهو اقتصاد ينمو نموّاً كبيراً يدعو معه اللجنة الرباعية إلى التفاؤل بما يحدث على الأرض: «وإذ تذكّر الرباعية بأن التغييرات التحويلية على الأرض هي جزء أساسي للسلام، تواصل دعمها لخطة السلطة الفلسطينية في آب/ أغسطس 2009 لبناء الدولة الفلسطينية في غضون 24 شهراً كدليل على التزام الفلسطينيين الجدي بدولة مستقلة تقيم الحكم الرشيد وتوفر الفرص والعدالة والأمن للشعب الفلسطيني، من أول يوم تقام فيه وتكون جارة مسؤولة تجاه كل دول المنطقة. وتلاحظ الرباعية بإيجاب خطوات إسرائيل لتخفيف القيود على التنقل في الضفة الغربية، وتدعو إلى اتخاذ مزيد من الخطوات المستدامة لتسهيل جهود السلطة الفلسطينية في بناء الدولة. وتصدّق الرباعية كلياً على جهود ممثل الرباعية في دعم جهود رئيس الوزراء (سلام) فياض في بناء الدولة، وبرنامج تنمية الاقتصاد الذي شهد تحسناً كبيراً في أداء السلطة الفلسطينية، في ما يتعلق بالأمن والقانون والنظام وتحسن النمو الاقتصادي. والرباعية تساند ممثل الرباعية في جهوده الحيوية لتعزيز التغيير على أرض الواقع دعماً للمفاوضات السياسية» (بيان اللجنة الرباعية، 19/3/2010). ويشير البيان نفسه إلى الظروف الصعبة التي يعانيها قطاع غزة، وفي ذهنه نموذج غزة «الفقيرة» التي يفتقر الفلسطينيين فيها إلى العديد من الاحتياجات والمواد الأساسية نتيجة الحصار الكامل للقطاع.
مقاربة الاقتصاد النامي في الضفة الغربية، التي تدعو معها الفلسطينيين إلى قبول الخطوات السياسية على الأرض، لم تخصص لتلك «الأرض» في موازنة السلطة لعام 2009 سوى أقل من 1% مقابل مبالغ طائلة للأمن، فيما الصراع على الأرض على أشده. لذا يتلقى الموظف الأمني مبالغ تفوق كثيراً ما يخصص للمزارع الفلسطيني الذي يعمل في الأغوار أو في مرج بن عامر. وفيما نسب البطالة نفسها لا تزال عالية رغم معدلات النمو المرتفعة: «وفقاً لمعايير منظمة العمل الدولية، بلغت نسبة المشاركة في القوى العاملة في الأراضي الفلسطينية 41.5% خلال الربع الثاني 2010... وأشارت النتائج إلى أن نسبة مشاركة النساء في سوق العمل في الربع الثاني من 2010 بلغت 15.2% مقارنةً مع 67.1% للذكور خلال الفترة نفسها... وفقاً للتعريف الموسع للبطالة، ارتفعت نسبة الأفراد الذين لا يعملون (سواءٌ كانوا يبحثون عن عمل أو لا يبحثون عن عمل) من 28.0% في الربع الأول 2010 إلى 28.6% في الربع الثاني 2010». (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 16/8/2010).
بدل خاتمة
إذاً يعتمد اللاعبون والمخططون الأساسيون للاقتصاد الفلسطيني على آليات عدّة لبناء الاقتصاد الفلسطيني:
1. بقاء الاقتصاد على المستوى القريب والمتوسط تابعاً بطريقة هيكلية، ومرتبطاً تماماً باقتصاد الاحتلال، «وجعل الاقتصاد الفلسطيني تابعاً للاقتصاد الإسرائيلي كخيار وحيد وبطريقة مباشرة. ففي السنوات الماضية، كانت نحو 80% من واردات السلطة تأتي من إسرائيل، بينما يذهب نحو ثلثي صادرات السلطة إلى إسرائيل». (مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2010).
2. توجيه الموارد الطبيعية والمالية، ورسم الخطط والسياسات الاقتصادية الفلسطينية التي تدمج المستوى المسيطر عليه فلسطينياً من الاقتصاد الفلسطيني بالسوق الحرة العالمية، بما يعنيه من غياب حماية المنتج الفلسطيني.
3. الاعتماد اعتماداً كبيراً على المنح والتمويل الأجنبي لغاية تحقيق الميزانية السنوية والخطط التنموية.
4. قبول النخب الاقتصادية والسياسية الآليات الثلاث لتعزيز سيطرتها على الواقع الاقتصادي ـــــ السياسي: «الدور السياسي المباشر لنخب المال والأعمال الفلسطينية المعولمة في عالم السياسة المباشرة ـــــ لا افترض انفصال الاقتصاد عن السياسة، بل القصد الممارسة السياسية المباشرة دون التعبير عن المصالح ـــــ أي تولي زمام الأمور وقيادة المجتمع بما يخدم مصالح هذه الفئات في تكرار لفكرة أن البُرجوازية الوطنية في مرحلة التحرر الوطني تشارك في معركة التحرر من أجل تسلم زمام القيادة في ما بعد، ولكن هل شاركت بالفعل هذه النخب في معركة التحرر، التي لم تنجز حتى الآن؟ فلماذا تريد أن تقود مجتمعاً تحت الاحتلال خاضعاً بأكمله للكولونيالية العسكرية والاقتصادية والسياسية، إلا إذا اقتنعت بأنه ليس هناك ضرورة لإنجاز مرحلة التحرر للقيادة، وأن تولي القيادة في الفترة المقبلة والمشاركة الفاعلة في إعادة تكوين المجتمع الفلسطيني بالمعنى الاجتماعي والاقتصادي الواسع هو ضرورة وحتمية لاستمرار إحكام قبضتها على كل مفاصل الاقتصاد». (جابر، 2010).
❞ثمة فوارق أساسية في حجم النمو الاقتصادي المحلي بين الضفة والقطاع ❝يخضع الاقتصاد الفلسطيني حالياً لعمليات هدم وإزاحة وإقصاء وانبناء تعمل من ضمن ما تعمل عليه بدمجه في شبكة من العلاقات السياسية ـــــ الاقتصادية على المستويات الداخلية والخارجية، كي يجري إحكام السيطرة على ركام الاقتصاد الفلسطيني الباقي بعد سنوات طويلة من الاستعمار.
المراجع:
- الاقتصاد الفلسطيني تقيّده إسرائيل. موقع «الجزيرة.نت». تاريخ الدخول: 25/8/2010.
- بيان مشترك من اللجنة الرباعية لسلام الشرق الأوسط، 19/3/2010. موقع مكتب المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية الأمركية.
- جابر. فراس. 2009. خصخصة فلسطين. دراسة وهم التنمية. رام الله: مركز بيسان للبحوث والإنماء.
- الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 16/8/2010. الإعلان عن نتائج مسح القوى العاملة، دورة الربع الثاني 2010 (نيسان ــــ حزيران، 2010).
- الرياحي، إياد. أيلول 2009. المانحون والاحتلال: روافع التنمية الفلسطينية. نشرة بدائل. رام الله: مركز بيسان للبحوث والإنماء.
- مجلس التجارة والتنمية ـــــ الأمم المتحدة. 2009. تقرير عن المساعدة المقدمة من الأونكتاد إلى الشعب الفلسطيني: التطورات التي شهدها اقتصاد الأرض الفلسطينية المحتلة. جنيف: الأمم المتحدة.
- الملخص التنفيذي للتقرير الاستراتيجي الفلسطيني لسنة 2009. 2010. تحرير د. محسن محمد صالح. بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
* باحث في مركز
بيسان للأبحاث ـــــ رام اللّه